أين أبي 2

 


2

لا تكذب فليس أنت من كتب الواجب ولكن لا تتعود على ذلك فعاقبني عنه بواجب من ورقة كاملة جعلتني أتغيب عن المدرسة لعدة أيام ولم يسألني أحد عن غيابي , وكان قد أبلغ أخي بغيابي عن المدرسة فهو زميله في المدرسة لكن أخي كان رحيما الى درجة كبيرة فسكت لعدة أيام ثم اصحبني معه وتابعت دراستي ولم يسألني المعلم عن الواجب او عن أي شيء فرسخ في عقليتي الطفولية أن المعلم نسي كل شيء فكانت هذه قاعدة بقيت معي سنوات أن أتجاهل المعلم فينسى ..!!

لم أكن أدرك أن المعلمين لطفاء يتجاوزون ويتناسون أحيانا عن قصد ونحن نحفظها لهم بأنهم ينسون كثيرا من الأمور فنهمل في دراستنا,مؤكد أن النتيجة لذلك عكسية لكنها عقول الأطفال.

درست في مدرسة القدس الصف الأول ابتدائي  فقط حيث انتقلنا بعد فترة الى جنوب بريده وأكملت الدراسة الابتدائية في مدرسة الفاروق .

ذلك اليوم الذي لن أنساه ابدا حينما كنت قادما من المدرسة قرب الظهر فحاولت فتح الباب في الشارع الغربي الذي قد تعودنا الدخول من خلاله وهززته بكل قوتي لفتحه فقد كان خشبيا ثقيلا مصنوع من خشب الأثل القوي جدا فلما تحرك قليلا وأدخلت جزءا من رأسي الى الداخل رأيت وبلمحة أشياء غريبة وحركة غير معتادة ..!!

من أهم ما لفت نظري بسرعة طاولة خشبية قديمة وماء متناثر على الأرض ورجلين معهم خالي (علي) أو خال والدتي وهو الذي لنا علاقة به كبيرة جدا ونحبه الى درجة قوية لمعاملته الطيبة معنا دائما وكان يزورنا بكثرة فقد اعتدنا عليه فليس غريبا وجوده في بيتنا لكن الغريب الذي يحدث في تلك اللحظة.

 التفت خالي بسرعة موجها نظره الى الباب وهو مشغول جدا ويتصبب عرقا مثل الآخرين ثم رآني أحاول الدخول فأسرع الى من خلف الرجال وأزاح رأسي  الى الخارج وقال بنبرة غير عادية لم اعهدها منه حيث كان يعاملني بلين وعطف ورحمة ومحبة ..

لكنه هذه المرة كان شديدا يتضح عليه الجدية والحزم ..!!

قال اذهب مع الباب الثاني !!

فقط ..

لم ينطق غيرها ودفع رأسي ثم أغلق الباب!!

استغربت هذه اللهجة التي ملأت قلبي وصدري عبرة تحشرجت في حنجرتي ..!!

لم استطع اخراجها لأن أصحابي في الشارع يسيرون متجهين الى منازلهم ,كبرياء ..طفل..!!

الذي احسست به صرخة وبكاء في داخلي أريد أن اخرجها لكنني كتمتها عن زملائي ومن كان في الشارع لا أريدهم أن يسخروا مني لأنه طردني ..

لكن عيناي امتلأت بالدموع فقط ..!!

خالي طردني وقال اذهب من الباب الآخر ..!!

عبارة قاسية الى درجة لم استطع أن أتعايش معها ذلك الوقت وحملتها معي سنوات كثيرة.

لم أفكر أبدا لماذا؟؟

 تجرعت البكاء وألم الموقف وصعوبته ثم امتلأت غيظا وغضبا وكرها.!!

طفولة ليس لها حد !!

 

كرهت في لحظتها هذا التصرف من خالي الذي لم يكن يعاملني أبدا بهذه الطريقة وكرهته هو أيضا..!!

مشيت في الشارع متجها الى الباب الثاني كانت أول صدمة لي أن ضحك علي اصدقائي وسخروا مني لأنني سأدخل بيتنا متأخرا عنهم , ولم أكن كالعادة أول من يدخل البيت لقرب بيتنا من المدرسة بالنسبة لهم .

 

كنت اراهن أصدقائي على أنني اول واحد يدخل بيتهم حينما نأتي من المدرسة كنا نجري ونتسابق الى منازلنا وكثيرا ما كنت افوز بذلك لقرب بيتنا من المدرسة عنهم ..!

 

صفعه من خالي تركت أثرا كبيرا وقويا في نفسي .

ذهبت الى الباب الثاني في الشارع الشرقي لمنزلنا وكانت الرحلة طويلة مليئة بالعبرات والغضب على خالي واصدقائي ولم أكن أعرف لماذا فعل ذلك ولم أفكر في السبب ولا يهمني كل ما يهمني هو أن غضبت عليه وكرهت منه التصرف هذا…

 امتلأ رأسي من كثرة الأفكار المتناثرة ما بين غضب وعبرة وكنت اسير ببطء حيث لا يهم الآن ان اصل بسرعة أو متأخرا ..

انتهى الأمر بالنسبة لي كانت حدود تفكيري أن ادخل كالعادة قبل أصدقائي تحطم كل شيء أمامي وكرهت خالي حينها كرها بحجم الكون وحملت معي هذا الكره فترة ليست بالقصيرة الى أن اتى يوما وأدركت لماذا فعل ذلك !!

 

انها حدود أفكار الطفولة هذه الرحلة من الباب الغربي الى الباب الشرقي التي لا يتجاوز طولها مائة وخمسين مترا ان لم تكن أقل كانت مسافة كافية لتملأ نفسي بالأفكار والهواجس وقلبي بالغيظ  التي بدت وكأنها استغرقت عشرات السنين ..!!

وصلت الى الباب الثاني لبيتنا اسحب حقيبتي لا يهمني أي احد يقابلني !

أيا كان ..!!

دخلت وكانت أحدى أخواتي قريبة من الباب في المدخل فأمسكتني بيدي وأدخلتني على أمي وكانوا كلهم يجلسون في غرفة صغيرة قرب الباب تستخدمها النساء للصلاة ومكينة الخياطة , كانت واسعة في حينها ومساحتها اليوم لا تتسع لطاولة طعام بأربع كراسي فكيف كانت واسعة كما كنا نعرفها ونعيش فيها !!

الذي اتذكره أن الغرف تلك كانت لا يمكن أن يتجاوز عرضها مترين ونصف الى ثلاثة أمتار لأن سقفها كان من خشب أشجار الأثل التي تكثر في منطقة نجد ويستخدمها السكان كثيرا للزراعة حول الأراضي وتحديدها وكذلك لاستخدامها كحطب للنار ..

يوجد خشب منها يتجاوز خمسة أمتار لكنه لا يمكن أن يحمل السقف الثقيل المتكون من الطين اللين وعسبان النخيل وسعفه فلو تم وضع الخشب بعرضة وتجاوز ثلاثة أمتار لانثنى من الوسط وانكسر أو على الأقل كوّن حفرة في سطح البيت تكون مستنقع لمياه الأمطار فيسقط أثناء فصل الشتاء الذي تكثر فيه الأمطار وكثيرا ما يحدث ذلك ..!!

كان عرض الغرف في حدود مترين ونصف الى ثلاثة أمتار بطول أحيان يصل الى خمسة أمتار ولو أرادوا زيادة العرض كما يحدث في المساجد أو بيوت العوائل الكبيرة والأمراء أو الأثرياء جدا يكون هناك عمود من الحجر الطبيعي (الحصى) المنحوت بطريقة فنية و شكل اسطواني صغير تكون الواحدة منه  بارتفاع اربعين سم تقريبا وقطر يصل الى عشرين سم ترص فوق بعضها لتشكل عمود يتمركز في الوسط يربط بين عرض الخشب فيكون ثلاثة أمتار ثم عمود ثم ثلاثة أمتار أخرى وهكذا .

نظرات أمي وأخواتي لبعضهم لم ادركها ولم أهتم لها لما أحمله من غضب  لكنني أحست أنهم ليسوا كعادتهم رأيت العبرة و الدموع في عيني والدتي وأختي الكبيرة كنت جائعا ومليئا بالغضب فلم أهتم لأي شيء يحدث أمامي ..!

وضعت حقيبتي وأظنني رميتها على الأرض , ثم هممت بالخروج من الغرفة متجها الى المكان الذي يجلس فيه ابي دائما في ظل جدار في (فناء منزلنا )  حيث كان هذا المكان لفراشة المستلقي فيه كثيرا بعد مرضة وكبر سنه لكنني قد تعودت أن أذهب اليه في كل مرة أعود من المدرسة أجلس معه وقد يمد يده الى مكان قريب منه يبدو لي أنه قرب وسادته أو تحتها فيسحب حلوى او حبات حمص الذي يسمى (قريض ) ليمدها لي فيفرحني بها ..

فرق كبير وشاسع جدا بين حلوى والدي ولو كانت قاسية (صلبه) وبين حلوى هذه الأيام اللينة الطرية, كانت تلك بطعمها الفريد يفوق طعم المعاصرة بآلاف المرات .

 

أمسكتني أختيمن يدي لتمنعني من الخروج وقالت:

أجلس عند أمي فنظرت لوالدتي بعمق هذه المرة.

لم تتلفظ لي بأي كلمة وقد رأيت في عينيها كماَ من الدموع المجتمعة تمسحها بيدها كل فترة لكن دون عويل صراخ وصياح ..

رأيت الحزن الكبير لكنني لم أدرك سبب ذلك ولم أعرفه ولم يخبرني أحد بحكم صغر سني فقد كان الصغير حينها لا يتم إبلاغه بكل الأشياء من حوله وكل الأحداث حزينة كانت أو سعيدة يتم تجاهله رحمة به وعطفا عليه وابعادا له عن الأحزان وربما فهما منهم بانه لا يدرك كل شيء فليس هناك داع لإبلاغه حتى يدرك عندما يكبر سنه ويكون الألم قد زال وأصبح الأمر عاديا فلا يؤثر عليه ,

والأقرب أنه تهميش للصغير مع رحمة وعطف وقد يكون سبب ذلك خوف والدتي على تأثري بمنعها أخواتي من اخباري بأي شيء.

 

كان في تلك الغرفة أمي وأخواتي الثلاث وقد كن صغيرات في السن تقريبا أكبرهن لم تصل للرابعة أو الخامسة عشر, كن يجلسن مع والدتي في تلك الغرفة ولا أذكر أنني سمعت لهن أي صوت أو نشيج ..

سوى بعض الهمس بينهن حينما يطلب منهن خالي شيئا فيناولنه ما طلب!

 

كانت أختي الكبرى منهن تمسك بأخي الصغير في حجرها مبعدة له عن أمي عنوة حتى لا يشغلها أو يؤذيها ..

 

حتى الآن لا أعلم لماذا لا يريدون مني أن أخرج من الغرفة ,ولا أعلم السب لم يكن لدي إدراك لأستنتج أو أفكر أو أعرف ما يحدث ..؟؟

كان همي أن اخرج من المكان واذهب لأبي أو الى للعب في فناء البيت .. او الخروج بعد سد الجوع الى الشارع للأصدقاء لكن كان ذلك ممنوعا ..

مرت الدقائق حتى أذنوا لنا بالخروج من تلك الغرفة جميعا ..

 

كان أول مكان ذهبت اليه هو مدخل الباب الآخر ومعرفة ماذا يحدث هناك ومن الرجال الذين مع خالي ولماذا طردني وأغلق الباب ؟؟!!

 

انطلقت الى المكان بسرعة الطفولة متفقدا كل شيء فيه الأرض الزوايا الجدران الباب من الداخل ..

 

لم أجد أي شيء سوى اثر الماء على الأرض ومكان ارجل طاولة وآثار أرجل بشرية على الأرض من مواطئ أقدام الرجال  الذين كانوا مع خالي تدور حول الطاولة ..!!

 

علامات تعجب لكنني لم أفهمها ولم أهتم لها ..!

عدت الى مكان والدي أنظر اليه وأبحث عنه وإذا بأخواتي ووالدتي قد طووا فراشه الذي يجلس عليه وكانوا يجمعون أشيائه وعصاه وشنطته الصغيره و(سديريته) التي لا تفارقه صيفا وشتاءً ..!!

 

لم يكن فراشه يطوى أبدا بهذه الطريقة كانوا اذا أرادوا تغييره أو تنظيفه عند ذهابة للصلاة أو للسوق حينما كان يبيع في (الجردة ) بسوق بريده الرئيسي .

 يتم تنظيفه أو استبداله أما أزالته بهذه الطريقة الغريبة التي توحي بعدم عودته حدثت اليوم فقط اليوم !!

لم أره بقربهم .. وكان الحمام مفتوحا .. مباشرة ادركت عدم وجوده وليس من عادته أن يترك مكانه أبدا بعد الظهر حيث أنه حينما كان سليما يستطيع المشي كان يأتي من السوق قبل الظهر ويخرج بعد العصر لكن وقت الظهر لم اره يوما قد غادر المنزل او غاب عنه ابدا ..!!

 

التفت يمينا وشمالا .. هنا وهناك لم أر ابي ..اريد أن اشتكي له ما صنعه بي خالي الذي ملأ صدري بالعبرات لعله يحدثه بالرفق بي في المرة القادمة فقد كان عزيزا عليه يسمع له ويقدره ويكن لأبي كل احترام !!

 

التفت الى اختي وسألتها  :

 

أين أبي ؟؟

يتبع.......

إرسال تعليق

0 تعليقات